الحكمة من خلق الخلق مع الدليل

تعد مسألة الحكمة من خلق الخلق من أعمق وأشمل المسائل الفلسفية والدينية التي تناولها الفكر الإنساني عبر العصور، فهي تتناول الغاية من وجود الإنسان وكل ما حوله من مخلوقات، وتُعدّ من القضايا التي تعكس طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتُعطي رؤية شاملة لمعنى الحياة وهدفها. يتناول هذا المقال موضوع الحكمة من خلق الخلق تفصيلاً، مستنداً إلى أدلة من الكتاب والسنة، مع توضيح المنظور العقلي والفلسفي، إضافة إلى عرض تطبيقات عملية لهذه الحكمة في حياة الإنسان.

مفهوم الحكمة في الخلق

الحكمة في الخلق تعني الغاية والهدف الذي من أجله خلق الله الكون وما فيه من مخلوقات، وهي تعبر عن الغرض الإلهي الذي يدفع الخالق إلى خلق هذا الكون وتدبير شؤونه. فالحكمة تعكس النظام الإلهي الكامل الذي يحتوي على حكم تتناسب مع كمال الله وعلمه الذي لا يُحد، مما يدل على أن كل شيء خلقه الله له سبب وحكمة تنسجم مع هذا العلم الإلهي.

الحكمة من خلق الخلق في القرآن الكريم

تتكرر في القرآن الكريم إشارات كثيرة تتعلق بالحكمة من خلق الإنسان والكون، ويمكن حصر أبرزها في الآيات التالية:

• قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (سورة الذاريات: 56).
  
  هذه الآية تشير إلى الهدف الأساسي من خلق الإنسان والجن، وهو عبادة الله وحده، وهذا معناه أن الغاية من وجود الإنسان ليست عبثاً أو صدفة، بل هي تحقيق علاقة عبودية مع الخالق تشمل الإيمان والعمل الصالح.

• قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (سورة الأسراء: 4).
  
  هذا التنويه بخلق السماوات والأرض وحكمتها يؤكد وجود هدف حكيم وراء هذا الخلق العظيم، وهو تدبير الكون وفق نظام محكم يعكس عظمة الخالق.

• قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾ (سورة الأنعام: 2).
  
  هذه الآية تظهر أن خلق الإنسان لم يكن بلا هدف، بل مرتبط بمشيئة الله وحكمته في تحديد الحياة والموت.

• قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ (سورة الملك: 15).
  
  يدل هذا على أن الأرض وما عليها من مخلوقات هو رزقٌ ووسيلةٌ لعيش الإنسان، ومن ثم لخلق نظام حياة يحقق الحكمة.

من خلال هذه الآيات يتضح أن الحكمة الكبرى من خلق الإنسان تتمثل في العبادة، أي إقامة العلاقة بين المخلوق والخالق، وهو الهدف الذي يوجه كل أفعال الإنسان وحياته.

الحكمة من خلق الخلق في السنة النبوية

احتوت الأحاديث النبوية على تأكيدات عدة حول الحكمة من خلق الإنسان، منها:

• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق ليعبدوه» (رواه البخاري ومسلم).
  
  هذا الحديث يؤكد على أن العبادة هي الهدف الأساسي والنهائي من خلق الإنسان.

• قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (رواه البخاري ومسلم).
  
  هذا يدل على أن الخلق فُطر على معرفة الله وعبادته، ويُعد دليلًا على أن خلق الإنسان قائم على هدف ديني وروحي.

• كما جاء في الحديث الشريف: «إنما مثلُ الدنيا كمثلِ الراعي على نهر، له أغنام، فجاء غراب يقتات على الأغنام، فقال الراعي: لا أدعك تأكلها، فقتل الغراب، فوقف في الشجرة يترقب، فغشى الغراب في هذه الأثقال، فلما هبطت الأغنام قال: الحمد لله الذي نجاني من الغراب».
  
  وهذا الحديث يعبر عن أن الإنسان مخلوق مسؤول عن الحفاظ على نعم الله وأن له دورًا في استثمار الحياة، بما يتفق مع حكمة الخلق.

الحكمة من خلق الخلق في الفلسفة الإسلامية

تناول الفلاسفة المسلمون، أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي، قضية الحكمة من خلق الكون والإنسان، وأكدوا أن الخلق هو تجلٍّ لكمال الله، وأن الهدف من خلق المخلوقات هو إظهار صفات الله من رحمة، وعظمة، وحكمة، وخلق نظام كوني متكامل يعكس وحدة الخلق.

قال ابن سينا: “إن وجود العالم ليس عبثًا، بل هو ضرورة عقلية ترتبط بحكمة الله الكاملة، فالخلق دليل على صفات الكمال، والكون عبارة عن نظام قائم على الحكمة، والإنسان هو مركز هذا النظام، لأنه يستطيع إدراك هذه الحكمة وتحقيقها عبر العبادة والعمل الصالح.”

حكم خلق الإنسان والكون

1. إظهار عظمة الله: خلق الإنسان والكون يعكس قدرة الله وعظمته، فتنوع المخلوقات وتناسقها يدل على حكمة الخالق التي لا حصر لها.

2. الابتلاء والاختبار: قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (سورة الملك: 2).
   
   الابتلاء هدفه امتحان الإنسان ليظهر صدق إيمانه وعمله.

3. التزكية والتكامل النفسي: يهدف الخلق إلى تزكية النفس وتزكية المجتمع، فالعبادة والعمل الصالح يصقلان أخلاق الإنسان ويقربانه من الكمال.

4. تحقيق العدل الإلهي: خلق الإنسان والاختلاف بين الناس في القدرات والرزق ليتم الحكم بين الناس بالعدل، وهو حكمة ربانية تظهر في الحياة.

5. الإعمار والاستثمار: الإنسان مكلف بإعمار الأرض واستثمار مواردها، وهذا جزء من حكمة الخلق وهو تحقيق الاستفادة والتنمية.

جدول يوضح بعض الحكم من خلق الإنسان

تطبيقات عملية للحكمة من خلق الخلق

الحكمة من خلق الإنسان تترجم عملياً إلى عدة أدوار ومسؤوليات تقع على عاتق الإنسان، منها:

• العبادة الطوعية: كالصلوات، الصيام، الدعاء، وذكر الله، وهي وسائل تعزز العلاقة بين العبد وربه.

• العمل الصالح: السعي في الخير والابتعاد عن المعاصي، لما له من أثر في تزكية النفس ومجتمعها.

• التفكر في خلق الله: التأمل في الكون وأسراره يعزز الإيمان ويقوي الوازع الديني.

• تحقيق العدالة والإنصاف: في التعاملات الاجتماعية، حيث إن الله خلق الإنسان ليكون مسؤولاً عن هذه القيم.

• التعايش مع المخلوقات: الإنسان خليفة الله في الأرض، فعليه رعاية البيئة واحترام حقوق المخلوقات.

خاتمة تحليلية حول الحكمة من خلق الخلق

الحكمة من خلق الخلق تتداخل فيها أبعاد روحية وفلسفية واجتماعية، فهي لا تقتصر على مجرد وجود الإنسان، بل على ما يصنعه هذا الوجود من علاقة متبادلة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان والمجتمع والبيئة. العبادة هي الغاية الأولى والأسمى، ولكنها ليست غاية منفصلة عن العمل الصالح، والابتلاء، والتزكية، والإعمار، والعدل. فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في إطار نظام حكيم محكم، يجعل من وجوده فرصة لتحقيق الخير، وصقل النفس، وإظهار عظمة الخالق من خلال التأمل والعمل.

يظهر هذا النظام في كتاب الله وسنة نبيه، كما تأمله الفلاسفة المسلمون وعبّر عنه العلماء، مما يؤكد أن حكمة الخلق ليست مجرد فكرة نظرية، بل واقع يعيشه الإنسان في حياته، ويستلهم منه معنى وجوده وهدفه الأسمى في الحياة.